الدور الحضاري
بقلم.. د/بشار عيسي
لا يمكن للمرء فهم طبيعة الدور الهام الذي تلعبه شبكة الأنترنت حضارياً، وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي بشرياً إلا إذا تخيّل الإنسان الحجم الذي تداخلت به تلك التقنيات مع تفاصيل الحياة اليومية لعموم البشر، وهذا ما يتضح لأي مراقب عند الملاحظة بأن أبرز المحتوى يتناول مختلف جوانب الحياة بشتى مناحيها، مُكوِناً من ناحية عملية عالماً خاصاً يُسمى بالفضاء التخيلي، وإلى جانب ذلك فهناك المُحتوى الأكاديمي أو الجامعي الذي يتولى تقديمه والإشراف عليه مراكز بحثية وهيئات تعليمية مميزة، وهنالك أيضاً المُحتوى الإعلامي أو الإخباري الذي تُقدمه شتى وسائل الإعلام الإلكترونية المختلفة المرئية والمسموعة وأيضاً المقروءة بنسخها الإلكترونية، وثمة مُحتوى سياسي تُوفره الهيئات السياسية ومراكز الدراسات المختصة، وفيما يتعلق بالمُحتوى الخاص بالحضارة والفكر والفلسفة والأديان فهو من أكثر المجالات المطروقة بكثرة ومن كل الاتجاهات والمشارب من خلال العديد من المنتديات والمواقع والروابط الإلكترونية.
في ثنايا عالم الأنترنت مواد غنية ومراجع منوعة لإشباع كل الهوايات وإرواء تعطش كل التساؤلات وتقديم مختلف صنوف المعلومات حيث يجد المرء كل ما يريده من الدراسات النقدية وأميز الاحتياجات الثقافية وتخصص المجموعات الحوارية المفتوحة لكل الفئات الثقافية والشرائح العُمرية والمُستويات الفكرية دون حدود، وأيضاً نوافذ النقاش الإلكتروني لتبادل الآراء والأفكار وكذلك الأفلام الوثائقية والروائع الموسيقية والكتب التوثيقية والروايات الأدبية، كما ويستطيع أي مُستخدم إيجاد المُحتوى العلمي غير الأكاديمي في الكثير من أهم الموضوعات كتطبيقات العلم والتقنية عبر الجامعات الإلكترونية وكذلك آفاق استكشاف علم الفضاء وشتى ألوان علوم الحياة، ويتوفر العديد من المواقع التي تُقدم توضيحاً وإيضاحاً حول ماهية عالم الإنترنت ومُحركاته وشبكات التواصل الاجتماعي وآلياته، ومن الواضح للعيان بأن أكثف المُحتويات المطروقة على الإطلاق هو ذلك المُحتوى التجاري المُرتبط بقطاع المال والأعمال ومجال الدفع الإلكتروني حيث يتم هنا استخدام هذا المُحتوى من قبل السواد الأعظم من أعرق الشركات التجارية والمؤسسات الاقتصادية ولجميع الأغراض التسويقية والترويجية، وفي واقع الحال فإن الدور الحضاري والتأثير الحقيقي لعالم الإنترنت لا يتأثر فقط بمحتواها وانتشارها وإنما يتعدى ذلك إلى شكل و طبيعة الخدمات التي تضمها وتقدمها.
من الواضح للجميع بأن الحرية إذا فقدت مسؤوليتها تحولت إلى نقيضها وهذا ما يُؤدي إلى المُفاضلة عملياً بين الدورين الإيجابي والسلبي للحرية عندما يتعلق الأمر بدور شبكات الإنترنت العالمية في هذا المجال، ففي الجانب المُضيء تبرز الآثار الإيجابية لهذه الحرية في تجذير وتعميق الأسلوب الديمقراطي وبخاصة في الجوانب المتعلقة بحرية التعبير المسؤول ويلمس المرء مدى الحاجة لتعميق هذا الجانب في حياة الناس وممارساتهم الحياتية اليومية فضلاً عن تنمية التفكير الاستكشافي لدى غالبية المُستخدمين الجدد والتي تُعد الحرية جزءاً أساسياً وهاماً من متطلباته، وأما الجانب المُظلم فيبرز بشكل مُعضلة تُسمى بالمُحتوى المتطرف غير المرغوب به وهو المُحتوى الذي يتوزع على كل من المجالين الأخلاقي والاجتماعي وفي كلتا الحالتين وبغض النظر عن الإمكانات التقنية المتوافرة لمنع تغلغل تأثير هذا المحتوى فلا بد من التأكيد على الرادع التربوي الوقائي.
تُعد أهم العوامل التربوية التي تُرسخها شبكات الأنترنت هي مهارات الاستطلاع والتعلم الذاتي بشكل كثيف جداً وفي التطبيق العملي لهذا الدور على الحالة التعليمية يُلاحظ صياغة شكل جديد يتجاوز من ناحية وظيفية المفاهيم العامة للتعليم التقليدي إلى التعلم الاستقلالي الذاتي وهذا الحال يتداخل معرفياً مع سهولة الحصول على المعلومات ذات الناتج التعليمي بشكل أيسر وأسهل وأسرع إضافة إلى ردم الهوة التقنية والثقافية بين طرفي المعادلة الحضارية المُعاصرة وتجسيرها للوصول إلى شكل النمطية الجديدة للتعليم بآثار إيجابية مع دور تربوي أكثر فعالية يضع الجميع أمام شكل جديد للعلاقات القائمة على التفكير المشترك أكثر مما يعتمد على الشكليات الحياتية، وفي ضوء ذلك كله يُمكن القول بأن الدور الحضاري لفضاء الإنترنت وعالمه موجود بفاعلية وثبات على أرض الواقع ولكنه مُرتبط عملياً بالاستفادة السلمية والإيجابية فهناك الكثير من الفرص الإيجابية التي تفتح ذراعيها داعية بجد عموم شرائح الناس للاستفادة منها والتعامل معها وهذا ما يطرح قضية عملية أخرى وهي رقعة انتشار الإنترنت نفسها وحقيقة الإجابة لا تنحصر فقط في السماح بتقديم خدماتها وتوفير ميزاتها بل تتعداها إلى تثقيف عموم الناس بأهميتها الحقيقية واعتماد التسهيلات العملية اللازمة لتوسيع خيوط شبكتها ضمن المجالات المفيدة المُتاحة بُغية اللحاق الواعي والدائم فعلاً بالركب الحضاري الآخذ في تغيير صورة العالم وشكل الحياة بنمط متسارع لا مكان أبداً فيه للانتظار أو مجرد التوقف عنده في إحدى محطاته.
بقلم
د. بشار عيسى / سورية