الإعلام الالكتروني
طفت الكلمة المكتوبة إلى سطح الشاشة من أطباق الورق، وبرزت جملة مفاهيم كالكتاب الإلكتروني والتجارة الإلكترونية والحكومة الإلكترونية، ويُثير الانتشار الواسع للكلمة الإلكترونية والشاشة المتطورة على حساب الورق والكلمات المطبوعة وقضية اختفاء وانقراض الكتب والدوريات المطبوعة، ولفهم هذه القضية بشكل واضح فيتوجب البداية بقصة الكتابة من بدايتها حيث كانت اللغة الشفهية أُولى وسائل الاتصال الفعالة بين البشر واختصرت بإمكاناتها الداخلية الهائلة زمن التعبير وأمدته بدقة لم تكن ممكنة من دونها وفي هذه اللغة وُلدت المعرفة الإنسانية كلها كالفلسفة والعلوم والآداب إلا أن رنين الكلام المولود في الصوت والحادث في الزمن لا يمكن أن يحفظ الخبرة كما هي كما أنه لم يكن قادراً على الانتقال الحر في الزمان وكذلك المكان، وجاءت بعدها الطباعة والكتابة الإلكترونية كتكنولوجيا اخترعها الإنسان في محاولة لتخزين الكلمة وضمان سهولة نقلها في المكان والاحتفاظ بها واستعادتها في أي وقت، على أن هذه التقنيات التي تتعامل مع المعرفة العقلية تعبيراً وتخزيناً وتنظيماً وتداولاً مارست ولا تزال تُمارس تأثيراً جذرياً على العقل نفسه فقد درس كثير من الباحثين تأثير الكتابة النسخية على عقل الإنسان ودينامياته النفسية ومن ثم تأثير ذلك على تصوره لذاته وعلاقته بالكون والآخرين وبالتالي على تصوره العقلي والفلسفي مما يُؤشر إلى أن التحول في تكنولوجيا المعرفة ليس مجرد تحول من تقنية إلى أخرى بل هو التحول إلى طبيعة عقل آخر بنمط مغاير.
إن نمط العلاقة مع الكتابة على الأوراق حساس جداً وشاعري والإنسان هو من يُبدع ويرسم الكلمات المكتوبة وعملية تعليم الكتابة بحد ذاتها هي في الحقيقة تدريب العقل لتوظيف عضلات الذراع لتتحكم في تصوير الحروف والكلمات لتتشكل منها مادة المعرفة، ويتم تحويل الكلمة المنطوقة والمسموعة والحادثة في الزمان إلى كلمة مرئية محصورة في المكان وبمعنى آخر فقد تحولت المعرفة العقلية إلى شكل مادي هو الكلمات المكتوبة، وعلى النقيض من الكلمة المكتوبة فإن الكلمة الإلكترونية ليس لها وجود مادي لأن ما يظهر على الشاشة هو التعبير الافتراضي لاستدعاء المنظر الرقمي للحرف من مقصد الكاتب إلى الكومبيوتر، والقارئ من الشاشة يُدرك أنه ليس أمام كلمات مادية حقيقية مثل النص المكتوب أو المطبوع بل إنه أمام جملة حزم إلكترونية تندفع خلف الشاشة لكي تُشكل على سطحها خيالات تشبه الكلمات، والنتيجة هي أن الكلمة الإلكترونية فاقدة لعنصر الثبات والاستقرار الذي كان للكتابة النسخية و الطباعة وبالتالي فالمعرفة المستقاة منها متطايرة وفاقدة لعنصر اليقين كما أن مواصفاتها تجعلها غريبة ومغتربة عن ثقافة الورق وخط القلم والكلمات المكتوبة التي تظهر فيها الحروف مُكونة من مجموعة خطوط متصلة ومتعددة الأشكال الأمر الذي يسمح معها بتشكيل بُعد جمالي للفراغ الطباعي.
انتشرت دوائر العلوم والمعارف والمعاجم والمكتبات الإلكترونية على شبكة الإنترنت وهي مُمتلئة ومُتخَمة الآن بأعداد كبيرة من عناوين الكتب الكلاسيكية المنشورة بلغات متعددة إضافة إلى الآلاف من الصحف والمجلات العربية والأجنبية، كما انتشرت مواقع الجامعات والكليات العلمية والعالمية وكذلك متاحف العلوم والفنون واتجهت المناهج العلمية لدراستها عبر الإنترنت، ومن ناحية أخرى يستمر تطوير مجال التأليف والنشر على شبكة المعلومات بشكل مُتسارع ومكثف، وإذا كان المؤرخون قد اعتبروا القرن الخامس عشر هو بداية ظهور الكتاب المطبوع فهل يمكن اعتبار هذه الأيام الحالية هي الأوج الحقيقي في الانتشار السريع الملفت للكتاب الإلكتروني ودخول الكتابة الإلكترونية طور الشباب وذروة العطاء.
إن الاغتراب عن النص الإلكتروني هو الصفة الأساسية لأغلب الكُتاب والقُراء الذين تشكل وعيهم ووجدانهم الداخلي قبل ظهور الكتابة الإلكترونية ويبدو هذا واضحاً وجلياً جداً في الدعوة بصورة مستمرة دوماً لاستمرار الكتاب كوسيلة أولى لتلقف صنوف المعرفة و بالتالي استمرار العقلية الكتابية اليقينية، والواضح للعيان بأن قضية إمكانية انقراض الكتاب المطبوع واستبداله بالكتاب الإلكتروني ليست بالقضية السهلة والبسيطة نظراً لأن الكتاب المطبوع هو الشكل الأخير من سلسلة طويلة من التحولات والتطورات لتكنولوجيا الكتابة بدءاً من الألواح الطينية وصولاً إلى باب التحول الأخير نحو الكتاب الإلكتروني الذي يأتي نتاجاً لتزاوج الميديا الإلكترونية مع النص المكتوب، وفي هذا السياق فإن لُب القضية يكمن في تحول نظر المرء بشكل جذري من المطبعة إلى الشاشة مع عادة التمسك بالكتاب كمصدر وحيد ومُعتمد للمعرفة دون السؤال عما يُقدمه الكتاب كأداة للمعرفة ومدى إمكانية تحول الشاشة لبديل مناسب.
تشكلت معظم أشكال الآداب والفنون والمعارف والعلوم والفلسفات والنظريات على مدى العقود الذاهبة والأيام الماضية في مضماري الكتابة والكتاب، وتعوّد الجميع على التعامل مع الكتاب كوسيلة امتداد للذاكرة فالكتاب وسيط تكنولوجي يُمكن من التذكر بصورة واضحة والمكتبة التقليدية تُشكل على هذا النحو فضاءً واسعاً يتجول الإنسان بداخله جسدياً وعقلياً مما يُتيح له الانتقاء بشكل أكثر تركيزاً، ولهذا السبب عينه يُشكل الكتاب الإلكتروني عقبة كبيرة في عدم تقبل وراثته للكتاب المطبوع فهو أي الكتاب الإلكتروني ليس أكثر من مجموعة من صنوف العلاقات والروابط الكامنة بين صور نصوص مختلفة تُحيل القارئ إلى روابط و علاقات أخرى مما يُقلل من عمل الذاكرة وفي الوقت نفسه يُشتتها إلى حد بعيد وهذا هو الخطر الحقيقي كما أن الكتاب الإلكتروني يظل طوال الوقت كياناً افتراضياً لا يستطيع أي قارئ الإمساك به أو الوقوف عنده فهو ليس كتاباً حقيقياً أو مكتبة قائمة بذاتها .
بقلم
د. بشار عيسى